فصل: المبحث الثاني: أدلّة الولاء والبراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المبحث الأول: حقيقةُ الولاء والبراء:

.تعريف الولاء والبراء في اللغة:

الوَلْيُ في اللغة هو القُرْب هذا هو الأصل الذي ترجعُ إليه بقية المعاني المشتقّة من هذا الأصل.
وأما بَرِئ، فبمعنى: تَنَزَّهَ وتباعَدَ فالتباعُدُ من الشيء ومزايلتُه هو أحدُ أَصْلَيْ معنى هذه الكلمة والأصل الثاني هو: الخَلْقُ، ومنه اسمه تعالى «البارئ». ومن الأصل الأول «وهو التباعُدُ من الشيء ومُزَايلته»: البُرْءُ هو السلامة من المرض، والبراءةُ من العيب والمكروه.
والبَرَاءُ: مصدر بَرِئتُ ولأنه مصدر فلا يُجمع ولا يُثَنَّى ولا يؤنّث، فتقول: رجُلٌ بَرَاء، ورجلان بَرَاء، ورجالٌ بَرَاء، وامرأةُ بَرَاء. أمّا إذا قُلتَ: بريءٌ، تجمع، وتثني، وتؤنث، فتقول للجمع: بريؤون وبِراء «بكسر الباء»، وللمثنى بريئان، وللمؤنث بريئة وبريئات.
هذا هو معنى الوَلاء والبراء في اللغة.

.تعريف الولاء والبراء في الاصطلاح:

بالنظر في أدّلة الكتاب والسنّة وُجد أن معتقد الولاء والبراء يرجع إلى معنيين اثنين بالتحديد، هما: الحُبُّ والنُّصْرةُ في الولاء، وضِدُّهما في البراء. ولا يخفى أن هذِين المعنيين من معانيهما في اللغة، كما سبق بيانه.
وعلى هذا فالولاء شرعًا، هو: حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين.
والبراء هو: بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى «من الأصنام الماديّة والمعنويّة: كالأهواء والآراء»، وبُغْضُ الكفر «بجميع ملله» وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه.
وبذلك نعلم، أننا عندما نقول: إن ركني الولاء والبراء هما: الحب والنصرة في الولاء، والبغض والعداوة في البراء، فنحن نعني بالنصرة وبالعداوة هنا النصرة القلبيّةَ والعداوةَ القلبيّة، أي تمنِّي انتصار الإسلام وأهله وتمنِّي اندحار الكفر وأهله. أمّا النصرة العملية والعداوة العمليّة فهما ثمرةٌ لذلك المعتقد، لابد من ظهورها على الجوارح، كما سبق.

.المبحث الثاني: أدلّة الولاء والبراء:

إن معتقد الولاء والبراء معتقدٌ يقيني، لا يُمكن التشكيك فيه، لارتباطه بأصل الإيمان. ولذلك فإن أدلّته أكثر من أن تحصى، خاصةً إذا أدخلنا في أدلّته كل ما دلّ عليه من منطوق ومفهوم. ولذلك فقد تعاضَدَ في إثبات هذا المعتقد أدلةٌ متكاثرة من: الكتاب، والسنة، والإجماع.
ولذلك فإني سأكتفي هنا بذكر قطرةٍ من بحر هذه الأدلّة:

.أدلّته من الكتاب العزيز:

يقول الله تعالى في الولاء: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة 055-056].
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة 071]. قال ابن جرير: «وأمّا المؤمنون والمؤمنات، وهم المصدّقون بالله ورسوله وآيات كتابه، فإن صفتهم أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم».
وأما البراء، فقال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} [آل عمران 028]. قال ابن جرير في تفسيرها (ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكُفّارَ ظَهْرًا وأنصارًا، توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتَدُلّونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ اللهُ منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضمروا لهم العداوة، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل).
والنصوص في ذلك كثيرة، وسيأتي غيرها في المبحث الآتي:

.أدلّته من السنة:

أمّا في الولاء، فيقول صلى الله عليه وسلم «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تَدَاعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى».
وقال صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بَعْضُه بعضًا».
وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يُسْلِمُه».
وقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنّةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلامَ بينكم».
وأمّا في البراء، فيقول صلى الله عليه وسلم في حديث جرير بن عبد الله البجلي، عندما جاء ليبايعه على الإسلام، فقال جريرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، اشْترطْ عليَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «أُبَايِعُك على أن تعبد الله ولا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتنصحَ المسلم، وتفارقَ المشرك» وفي رواية: «وتبرأ من الكافر».

.الاستدلال للولاء والبراء بالإجماع:

لا شك أنّ أمرًا هذا هو ظهوره في أدلّة الكتاب والسنّة، اجتمع فيه أن يكون حُكمًا مقطوعًا به، لكونه قطعيَّ الثبوت والدِّلالة، مع تضافر الأدلّة وتواردها عليه أنه سيكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة.
ولذلك فإننا لا نحتاج في مثله إلى نصٍّ من عالم على الإجماع فيه، بل يكفي أن نستحضر أدلّته وحقيقته وعلاقتَه بأصل الإيمان، لنوقن أن الولاء والبراءَ محلُّ إجماعٍ حقيقيٍّ بين الأُمّة.
ومع ذلك فقد نُقِل الإجماعُ في ذلك:
فقد قال ابن حَزْم (ت456هـ) في «المُحَلّى»: «وصَحَّ أن قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} إنما هو ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حقٌّ، لا يختلف فيه اثنان من المسلمين».
وأنَّى نشك في صحّة هذا الإجماع، وفي أمّ القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة 006-007]، وقد أجمع المفسرون أن: المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى.

.المبحث الثالث: علاقته بأصل الإيمان:

إن كُلّ مبدأ ومذهب يعتقده جماعةٌ من الناس، ويخالفهم فيه آخرون، لابد أن يُحْدِث اجتماعُ تلك الجماعة عليه بينهم تعاونًا وتناصرًا فيه، ولابد أن يُحدِثَ عند مخالفيهم محاولاتٍ في تغيير مبادئ تلك الجماعة ومذاهبها. وهذا سيؤدّي إلى التصادم وإلى المعاداة بينهما، واللذان يختلفان في حِدّتهما وضعفهما بحسب مقدار التبايُنِ بين المبدأين والمذهبين، وبحسب سعة وشمول كُلِّ مبدأٍ: لمناحي المعتقد القلبي، وللواقع العملي، ولوجوه الحياة المتعدّدة.
هذه سُنّةٌ كونيّةٌ مشاهدةٌ، لا تحتاج إلى استدلال، بغير شاهد الوُجُود المرئيّ المعلوم.
ولا يقتصر هذا الصِّراع بين الأديان فقط، بل بين كل مبدأين أو مذهبين متعارضين. فهذا في العصر الحديث الصِّراعُ الذي كان محتدمًا بين الاشتراكيّة والرأس ماليّة، ولم يزل. وهذا الصراع بين الديمقراطيّة والدكتاتوريّة وأنظمة الحكم الأخرى. بل هذا الصِّراع في الأنظمة الديمقراطية بين الأحزاب المختلفة.
إن اعتقاد المرء أنه على حقّ في مسألةٍ ما، وأن من خالفه على باطل، واعتقادَ المخالِف في نفسه أنه هو الذي على الحق، لابد أن يُحدث بين الاثنين تفاصُلًا وعدمَ التقاء، بقدر أهميّة المسألة المختَلفِ فيها. ولن يزول هذا التَّفَاصُل إلا بهلاك المختلفَيْنِ، أو أحدهما، أو بأن يتابع أحدهما الآخر ويترك ما كان عليه.
لذلك كان مُعْتَقَدُ الولاء والبراء في الإسلام مرتبطًا بوجود الإسلام، فما دام في الأرض مسلمٌ موحِّد، وفي الأرض كافر أو مشرك فلابد من أن يكون هناك ولاءٌ وبراء، لا من قبل المسلم وَحْدَهُ، بل من قِبَل مُخالِفِه أيضًا.
ولمّا كان الإسلام دينَ الله تعالى، وما سواه أديانًا باطلةً، ولمّا كان الإسلامُ دينًا تشملُ أحكامُه شؤونَ الحياة الدنيا والآخرة جميعَهما، ويحتكمُ إليه المسلم في كل معتقداته القلبيّة وأقواله وأفعاله، وهو مرجعه في تحديد طبيعة علاقاته الفرديّة والاجتماعية مع المسلمين وغير المسلمين كان لابد أن تكون لعقيدة الولاء والبراء فيه مكانةٌ عظمى، بل هي مكانةٌ مرتبطةٌ بأصل الإيمان، فلا بقاء للإيمان بغير ولاء وبراء، وذهاب الولاء والبراء يعني ذهاب الإيمان كله رأسًا.
يقول الله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة 080-081].
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة (ت728هـ) في كتاب (الإيمان): (فذكر جملةً شرطيّةً تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ}، فَدَلَّ على أن الإيمان المذكورَ ينفي اتّخاذَهم أولياءَ ويُضادُّه، ولا يجتمع الإيمان واتخاذَهم أولياءَ في القلب. ودلَّ ذلك أن من اتّخذهم أولياء ما فَعل الإيمانَ الواجبَ من الإيمان بالله والنبيِّ وما أُنزل إليه.
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام ظاهرٌ واضح من الآية، لكني أحببتُ بيانَ فهم أئمة الإسلام لها.
ولهذا التلازم بين أصل «الإيمان» والولاء والبراء، جاء في كتاب الله تعالى خبرٌ بنفي وجود مؤمن يحبّ الكافرين لكفرهم، فهذا لا يُمكن أن يكون موجودًا أصلًا، لأنه لا يجتمع حُب النقيضين في قلبٍ واحدٍ أبدًا.
قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة 022].

.المبحث الرابع: توافق الولاء والبراء مع سماحة الإسلام:

بعد أن بيّنّا أدلّة عقيدة الولاء والبراء، وعلاقتهما بأصل الإيمان، فإنه لا يبقى هناك شك في أنها إحدى أُسُس الدين الإسلامي العظام. وهذا يعني أنّها لابد أن تصطبغ بصبغة الإسلام الكبرى، وهي الوسطيّةُ والسماحة والرحمة.
فقد قال الله تعالى عن نبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء 107].